شيدة شابة في الخامسة و العشرين من العمر ، نشأت في عائلة متوسطة الدخل و قليلة العدد ، مما أتاح لها فرصة التعليم في المدارس الخاصة ، حتى نالت شهادة البكالوريا سنة تسعة و تسعين و تسعمائة و ألف ، لكن وفاة والدتها أوقفت مسيرتها الناجحة في الدراسة و جعلت والدها يعزف عن فكرة إرسالها للدراسة خارج البلد ، أو حتى فكرة تركها تبتعد عنه ، و بعد أن كانت تحلم أن تتم دراستها و تتخرج من أحسن الكليات ، هاهي الآن ربة بيت ترعى أخاها الأصغر عادل الذي ولدته أمها قبل أن تُرفع روحها للسماء ، بعد أن عانت في حملها و وولادتها له .
هذا الوضع أتعب رشيدة و غير ملامح وجهها ، الذي أضحى مظلما بعدا أن كانت عيناها السوداوتين تشعان ببريق يجعل الناظر فيهما ينجذب نحوها دونما شعور ، و كأنها مركز للجاذبية ، و وجهها الأسمر الصافي فقد هذا الصفاء و بدأت ملامح شيخوخة مبكرة تبدو عليه ، و حتى رطوبة شعرها فقدتها ، لأنها لم تعد تهتم بنفسها .
لاحظ والدها كل هاته التغيرات التي طرأت على ابنته بعد وفاة والدتها ، ففي كل نظرة تنظر إليه ، و كل كلمة تتنبس بها له ، يرى أنها تفقد جمالها الذي كانت تتباهى بها أمام صديقاتها ، لكنه يرى فيها أختا و أما صالحة لعادل الذي بدأ يناديها ب"ما...ما" .
سعيد الرجل الذي يعمل كموظف إداري ، يتقاضى راتبا شهريا متوسطا لكنه يكفيه و يكفي رشيدة و عادل ، حزن كثيرا بعد وفاة زوجته ، و التجأ لشرب الخمر ، لكنه لم يكن يجعل رشيدة تحس بذلك ، فقد كان يعود متأخرا في الليل ، و يفتح الباب بروية كأنه لص ، و ينزع حذاءه لكي لا تسمع خطواته .
في يوم من الأيام عاد سعيد إلى البيت فوجد ابنته شبه منهارة بسبب التعب ، فانطلق حولها مسرعا حتى أنه نسي الباب مفتوحا و أغراضه مرمية أمامه ، و خاطبها بتلعثم :
رشيدة ...ابنتي ما بك ؟ ... ماذا حصل لك ؟؟
أجابته بصوت خفيف كأنها تهمس له في أذنه :
لا تخف يا أبي إنه التعب أخذ مني مأخذا حتى لازمت مكاني هذا لأرتاح قليلا .
فصرخ سعيد بصوت يرج المكان :
يا ويلي ماذا فعلت بك يا ابنتي ! ! رميت عليك كل أعباء البيت بعد وفاة والدتك و أهملتك ، رغم أني أعلم أنك لم تعتادي على كل هذا الثقل .
هون عليك يا أبي فأنت لم تسئ لي في شيء ، أنت تبذل كل جهدك في العمل خارج البيت لتوفر لنا لقمة العيش ، و أنا أعتني بالبيت و بأخي عادل الذي يجب علي أن أعوضه عن والدتي .
بالرغم من كل هذا ، و بالرغم من أن ضميره استفاق تلك اللحظة ، إلا أن عادل أصبح يزيد جرعات الخمر شيئا فشيئا ، حتى يفقد القدرة عى الحركة فيحمله الجيران إلى البيت ، صبرت رشيدة على هذا الحال ، و كانت كلما تكلمه و تحاول نصحه ينهال عليها ضربا ، كما لو أن وحشا سكن جسمه بعد أن كان الأب الصالح ، أضحى أضحوكة الحي و دكتاتور المنزل ، فحتى عادل الطفل الصغير الذي لم يتجاوز بعد الثلاث سنوات لم يفلت من عقابه ، فكان كلما يسمع صراخه في الليل ينطلق نحوه و يحاول إسكاته بالقوة ، و في أحد الأيام حاولت رشيدة منعه من معاقبته ، أمسكها بقوة من يدها و وجهها ، ثم ناداها ب"الساقطة" ، و هو في أعلى درجات السكر ، رماها في الأرض ثم انطلق مسرعا ليخرج من البيت و هو في قمة الغضب ، متجها مباشرة نحو علبة من علب الليل التي اعتاد الذهاب إليها بعد وفاة زوجته ، شرب قنينات من الخمر ، ثم عاد إلى البيت مصطحبا معه إحدى العاهرات ، صرخ بقوة :
رشيدة حضري لنا الطعام .
بقيت كلماته ترتطم بجدران المنزل و ما من مجيب ، أعاد الخطاب مرة أخرى لكنه بقي دون إجابة كما المرة الأولى ، نزع عنه حزامه و دخل للركن الذي ترك فيه رشيدة قبل أن يخرج من البيت ، فلم يجد أحدا ، انفجرت ثورة غضبه و بدأ ينعت رشيدة بأقبح الأنعات كما لو أنها لم تكن ابنته في يوم من الأيام ، دفع الفتاة التي أحضر معه بقوة خارج المنزل ، ثم خرج يبحث عن رشيدة و عادل و هو يصرخ باسميهما ، تارة يختلط صراخه بالبكاء ، و تارة أخرى يسقط في الأرض لكثرة ما شرب من الخمر ، حتى عثرت عليه دورية للشرطة و هو على هاته الحال ، فأخذوه إلى المخفر ليمضي الليلة هناك ، و كانوا ينهالون عليه ضربا و يسبونه و هو يصرخ بأعلى صوته :
أريد ابنتي ... أريد إبني ...
فيجيبه أحدهم ساخرا و هو يركله الركلة الأولى :
ها هي ابنتك
الركلة الثانية :
هو هو إبنك ...
فتنطلق ضحكات الإستهجان من رجال الشرطة ، حتى بلغوا به المخفر ، و جسمه غطته الدماء ، و الكدمات على وجهه أخذت كل الألوان ، فانبعثت صرخة من الداخل :
وا أبتي ماذا فعلوا بك ؟
لما سمع هذا الصوت لم يشك أنه صوت ابنته ، لكنه لم يستطع رفع رأسه ، و هو يتمنى أن لا تكون هي ، لكنها انطلقت نحوه مسرعة و انحنت عنده لتعانقه و تحمله من الأرض ، لكنه في تلك اللحظة تمنى لو أن الأرض انشقت و ابتلعته ، بالرغم من إحساسه بالسعادة داخله ، لأنه وجد ابنته و مع كل ما فعل لها و لعادل ها هي تنحني و تعانقه بحرارة ، و تذرف دموعا نسائيه انهمرت على كتف سعيد ، الذي كان يحس بذوبان جسمه مع كل دمعة تنزل عليه ، حاول رفع رأسه ليكلمها لكنه لم يستطع ، وسط كل هذا أتى صوت خشن من الداخل :
احملو هذا "...." من هنا ، و خذوه للسجن ليتربى .
لكن رشيدة لم تستطع رؤية ذلك المشهد و أخذت تتوسل إليهم و لقائدهم ، ليتركوه و يعفون عنه ، ثم رافقها قائدهم إلى الداخل ، طالبها بالجلوس و قال لها :
سنتركه اليوم عندنا ، و أعدك أنني سأعتني به الليلة شخصيا ، و سنرى في الغد ما إذا كان ندم عما قام به أم لا .
أجابته رشيدة :
أنا أسامحه سيدي فهو والدي و أخي و كل شيء بالنسبة إلي ، و أتمنى أن تعيدوه إلي ، إنه أعز ما عندي هو و عادل .
نهض القائد و طالبها بالصبر الليلة فقط و يعيدونه للبيت في الغد .
أمضى سعيد الليلة في السجن ، بعد أن سكب عليه حراسه دلوا من الماء أو أكثر ليعود لوعيه ، سرح بمخيلته و حاول جاهدا تذكر كل ما قام به في الأيام أو الليالي التي مضت ، فما بقي منها سوى ظلال في ذاكرته ، أحس بالندم الشديد عما قام به تجاه ابنته و ابنه اللذان كانا يأملان فيه صور الحنان و العطف ، و الغطاء الذي يحجب عنهما ما تأتي به رياح الشر ، و يناما على صدره ليحسا بالأمان ، لكنه كان هو ريح الشر بنفسها ، و كان مصدر الخوف بالنسبة لهما ، لم يستطع سعيد تحمل كل هذا فجعل يضرب رأسه على الحائط ، مما أثار انتباه الحارس الذي دخل في الوقت المناسب و منعه من ذلك ، ثم أخذه للقائد ، الذي بدت عليه علامات الرضى بعد أن سمع حديث سعيد و ما بدا عليه من ندم ، و قال له :
أنصحك ألا تعود لذلك مرة أخرى ، لأن ابنتك و ابنك في حاجة إليك و هما يحبانك كثيرا ، و إذا أعدت الكرة فإني أعدك بعذاب في السجن لم تر له مثيلا في حياتك ، و عندما تنتهي من عذاب السجن ستلاقي عذاب أكثر شدة عند الله سبحانه و تعالى .
لا...لا سيدي أعد الله و أعدك أنني لن أعاود الكرة مرة أخرى و سأمنح كل الوقت لابني و ابنتي إن هما سامحاني عما فعلته لهما من قبل . بدت عليه علامات الأسى و هو يقول هاته الكلمات .
إذهب إلى ابنتك و ابنك فقد سامحاك البارحة .
هكذا عاد سعيد إلى البيت ، و عانقته ابنته عناقا حارا و هي تقول :
سامحني يا أبي لأني تركت البيت البارحة من دون إذنك .
انفجر سعيد باكيا و انهار أمامها بعد أن سمع منها هاته الكلمات ...
و هكذا عادت العائلة إلى حياة أحسن من سابقتها ، فقد عدل سعيد عن شرب الخمر ، و تزوجت رشيدة برجل ملتزم و ميسور الحال ، و انتقلت مع أخيها الأصغر عادل و والدها إلى بيته الذي كان فسيحا كقلبه و قلب زوجته .